- الرئيسيه
- تاريخنا عزة ومجد
- الحرب العالمية الأولي
- الهيئات والمنظات التابعة للامم المتحدة ا
- الحرب العالمية الثانيه
- الجرائم التي تقوم بها الدول المستعمرة للش
- التعويضات المستحقة للدول المتظررة من الا
- الثروات التي تعود على دول الاستعمار تحت غط
- عوامل الوحدةالاممية
- ميثاق الامم المتحدة الملحدة
- النظام السياسي
- العالم الاسلامي
- للتواصل معنا
- UN فكرة نشاء المنظمة الصهيونية
- الثورات العربية وخفاياها
العقيدةوالتمزيق
عقيدة الغرب في تفتيت العالم الإسلامي – تحليل (الجزء الأول)
أحمد الشجاع - عودة ودعوة
1/8/2009م
تمهيد:
الأديان.. العقائد..المذاهب..الطوائف..الفرق..الجماعات..الأعرا ق..الأجناس..الأمم، مكونات طبيعية في الحياة البشرية. والتعدد والاختلاف والتنوع سنن من سنن الله الكونية والشرعية..ومن الطبيعي أن يتم التعارف والتعايش والتعاون، والتصادم والتضارب؛ لأسباب محكومة بمبادئ الحق أو نوازع الباطل أو دوافع المصالح..وكما سارت البشرية من قبل ستواصل مسيرها على هذا المنوال ما دام الخير والشر باقيان.
وقد جاء الإسلام ليعرفنا بحقيقة الحياة، ودلنا على الطريق الواضح إلى فهمها والأسلوب الصحيح في التعامل معها؛ فيكتمل بذلك المنهج الإلهي الذي أنزله الله تعالى على أنبيائه ورسله من قبل، فالله أعلم بخلقه وبما يضرهم وينفعهم..ولما جاء الإسلام ليصحح مسار البشرية الذي انحرف، وقفت ضده قوى الشر محاولةً إطفاء نوره، ولكن الله أراد لنوره أن يتم، فانطلق المسلمون يشقون طريقهم نحو العالم مستهدين بنور الإسلام ليزيلوا ظلمات الغي.
ولحكمة يريدها الله؛ ولأن الخير والشر في صراع دائم، ظهرت الفُرقة بين المسلمين، ونشأت الفرق والطوائف، بعضها جاء عن جهل وهوى، وبعضها صنعت بأيد خارجية تكيد للإسلام وتسعى لضربه من الداخل بعد أن عجزت عن صده، وعرفت أن المواجهة المباشرة لا تفلح، وأدركت أن سر قوة المسلمين في وحدتهم، وأن هذه الوحدة لا تقوم ولا تدوم إلى بمنهج يوحد عقولهم وقلوبهم: [ واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا...]..ولا زالت الأيدي الخارجية تعمل عملها إلى اليوم بنفس العقلية القديمة، ولكن بأدوات ووسائل وطرق تختلف باختلاف الزمان والمكان والظروف.
ولا شك أن كل تدخل أجنبي لا يأتي بخير، بل الشر مطيته والفتنة سلاحه..فهو الذي زرع الفتنة في قلب العالم الإسلامي (إسرائيل)، وهو الذي أيقظها في العراق، وصنعها في السودان، وأنشأها في الصومال، وثبتها في لبنان.. الخ.
وبشكل سريع ومختصر سنحاول هنا عرض بعض مظاهر الصراع الطائفي والعرقي في العالم الإسلامي (يشمل أيضاً الوطن العربي)، ودور التدخل الأجنبي (المقصود به هنا الغرب) في تلك الأحداث.
دين أم مصالح
يرفض البعض القول إن للغرب أهدافاً دينية تجاه العالم الإسلامي في هذا العصر، وحجتهم في ذلك أن الغرب أصبح كياناً علمانياً مادياً بعد أن أزاح الدين من شئون حياته، ولم يعد يفكر إلا في المصالح الاقتصادية بالدرجة الأولى، فهي الركيزة الأساسية لبناء الدولة القوية..ويرى هؤلاء - مثلاً - أن نفط قزوين سبب احتلال أفغانستان، واحتلال العراق يهدف إلى السيطرة على نفطه ونفط المنطقة.
أما القول إن الغرب أصبح كياناً علمانياً فهو صحيح، وهو أمر واقع، ولكن لا يلزم من ذلك أن الدين أصبح بعيداً تماماً عن الفكر السياسي الغربي، فلا زال للدين تأثيره في السياسة الخارجية الغربية تجاه العالم الإسلامي والشواهد على ذلك موجودة في الواقع العملي. آخرها وأبرزها العراق، وسيأتي بيان ذلك.
والجديد في الأمر هو أن الخطاب السياسي تحول من الكنيسة إلى الحكومة، ومن الطبيعي أن تتغير لغة الكلام، ومفردات الخطاب المصبوغة بدبلوماسية التعبير، وآليات التنفيذ. وإذا لم يكن الغرب يستخدم الدين في خطابه الرسمي فهو يستخدمه على أرض الواقع..فلم يعد – في نظر الغرب – مناسباً الإعلان رسمياً بأن الإسلام هو الخطر الحقيقي، فهذه لغة الكنيسة.. والبديل هو (الإرهاب) و(التطرف) و(العنف)، وهي مصطلحات عامة ومطاطة يمكن التلاعب بها.
ولكن على أرض الواقع فالمعني بهذه المصطلحات هم المسلمون جميعاً؛ بحجة أن بعضهم حمل السلاح في وجه الغرب..أيضاً لم يعد الخطاب الرسمي الغربي يدعو صراحة إلى محاربة الإسلام وتدميره بالقوة العسكرية، فهذا أيضاً كان في لغة الكنيسة. والبديل هو ضربه من الداخل بالوسائل الثقافية والفكرية عبر تصدير وغرس الثقافة الغربية في عقول المسلمين لتحل محل الإسلام، وقد تعددت الوسائل ولكن الهدم واحد:
فالعلمانية تلغي الدين من حياة الناس فتجعلهم في خواء روحي..والليبرالية تنزع الفرد من مجتمعه وتحوله إلى كائن تائه دون مبادئ أو ثوابت، وما له من قرار..والرأسمالية تجعل المجتمع عبداً للمال، يسيطر عليه الجشع والطمع، وآلة للاستهلاك فقط..هذه الأفكار، وغيرها، يجاهد الغرب بكل ما أوتي من قوة في سبيل نشرها داخل المجتمعات الإسلامية، وقطع شوطاً كبيراً، فما مصلحته من ذلك؟.
عندما تنتشر هذه الأفكار في مجتمع من المجتمعات يصبح مفككاً.. فلا عقيدة توحد الناس، ولا مبادئ وثوابت يجتمعون عليها، ولا مصالح مشتركة يتعاونون لأجلها.. والنتيجة مجموعة من الكائنات البشرية الشاردة والمتصارعة. كذلك تضعف النزعة الوطنية (التمسك بالوطن، والدفاع عنه؛ فيصبح المصاب بهذه الأفكار أكثر استغلالاً لبيع وطنه مقابل مصالحه ومطامعه).
ولمن أراد معرفة الأثر العقدي في السياسة الغربية تجاه العالم الإسلامي عليه ألا يكتفي بالنظر في المواقف الرسمية المعلنة – رغم أن بعضها يحمل أحياناً إشارات عقدية – بل عليه أن ينظر في البيئة الفكرية التي جاء منها إلى السلطة هذا المسئول أو ذاك الحزب أو تلك الحكومة.. فالمرء ابن قومه، وجزء من مجتمعه الذي أوصله إلى السلطة. وقد تحدُث بعض الاستثناءات لظروف مرحلية تستدعي ذلك.
وانطلاقاً من ذلك سوف نتحدث عن البيئة الفكرية والعقدية التي أثرت ولا زالت تؤثر في النظرة الغربية العنصرية تجاه المسلمين والإسلام، مع تركيز الحديث عن أمريكا؛ بحكم أنها الأكثر نفوذاً وهيمنة في العالم؛ ولأنها رأس الحربة الغربية في العصر الحاضر. ثم نستعرض بعض ملامح الواقع المتأثر بتلك البيئة.
والهدف من ذلك توضيح أن ما يحصل في العالم الإسلامي من اضطرابات وفتن وصراعات بفعل التدخلات الغربية لم تكن لأغراض ومصالح اقتصادية فقط بل للعقائد دورها، فقد تقع أحياناً أحداث تتعارض مع المصالح الاقتصادية، أو لا تتحقق عن طريقها، فحينها نفتش عن الجانب العقدي والجانب السياسي. لمعرفة الأسباب..أما المصالح الاقتصادية فلاشك أنها موجودة ضمن مجريات الأحداث، إما سبباً رئيسياً، أو سبباً ثانوياً. وأكثر وضوحاً من غيرها، ويسهل ربط الأحداث بها؛ ولهذا لم أركز عليها في هذا الموضوع.
مقصود الحديث:
درءاً لسوء الفهم، وتوضيحاً لفكرة هذا التحليل؛ لا بد من بيان ما نريد طرحه في الحديث عن الغرب والعقيدة الغربية، وما المقصود من ذلك.
أولاً: بالنسبة للحديث عن العقيدة الغربية هنا ليس محصوراً بالجانب الديني فقط، بل يشمل الجوانب السياسية والفكرية والاقتصادية، وغير ذلك، وهي جوانب تتداخل كثيراً فيما بينها على شكل منظومة تحددها السلوكيات والمهام العملية.
فمن الخطأ النظر إلى الأحداث من منظار واحد، أو ربطها في جانب واحد فقط وإهمال بقية الجوانب التي تؤثر وتتأثر بالأحداث..ولكن يمكن التركيز على جانب واحد أو أكثر بناءً على درجة حضوره في مسرح الحدث ودوره في صناعته، وبحسب الظروف التي تدفع إلى إبراز أكثر الجوانب تأثيراً.
أيضاً، دائماً ما تتأثر تلك الجوانب ببعضها البعض، ويغلب بعضها على بعض؛ مما يؤدي إلى الكثير من التغيرات والتحولات في كافة المستويات.
فالسياسة الأمريكية - مثلاً - كانت تفضل عدم التدخل في الشؤون العالمية قبل الحرب العالمية الثانية، ولكن المصالح الاقتصادية غلبت على التوجه السياسي بفعل الظروف التي هيأتها الحرب العالمية الثانية.
وبناء على ما سبق ركزت في هذا الموضوع على الجانب العقدي والفكري لعدة أسباب، منها:
* أن العقائدتظل باقية، فقد يعتريها بعض الضعف والتراجع إلا أنها لا تزول. على عكس بقية الجوانب التي سرعان ما تتبدل وتتغير.
* العقائد أكثر تأثيراً على العقلية الغربية على مر العصور..وتبعاً لذلك لا زال الإسلام في نظر الغرب هو العدو الأول، فمنذ الحروب الصليبية وإلى الآن تظل التدخلات والاعتداءات الغربية على العالم الإسلامي مصبوغة – بصفة عامة – بالصبغة العقدية، بصرف النظر عن تفاصيل التدخلات، ومكانها وزمانها، وأسبابها وظروفها.
* لم تقتصر التدخلات الغربية في العالم الإسلامي على الوسائل العسكرية والاقتصادية التي تستهدف الأرض وثرواتها، بل شملت الوسائل العقدية والفكرية التي تستهدف الإنسان ومبادئه ومعتقداته وتقاليده.
* الأفكار والثقافات الغربية – المنتشرة بين المسلمين - ساهمت بشكل كبير في توسيع الانقسامات بين المسلمين وزيادة حدة الصراع الداخلي.
* الأسلوب الغربي في مواجهة العالم الإسلامي يختلف عن أسلوب مواجهة القوى العالمية الأخرى، فمواجهة الغرب للنفوذين الصيني والروسي محصور في المسائل الاقتصادية والعسكرية، ولم نسمع عن محاولة فرض الثقافة الغربية على هذه البلدين، مع العلم أنه يمكن للثقافة الغربية الدخول إلى هذين البلدين بفعل وسائل التقارب والتواصل وليس بوسائل الابتزاز والضغوط والتهديدات التي تطبق على المجتمعات الإسلامية.
الأمر الثاني الذي أريد توضيحه هو أن الحديث عن الغرب ككيان واحد يأتي امتداداً لما سبق ذكره في العقيدة الغربية، وهو أن الغرب كان ولا يزال يتعامل بعقلية مشتركة، وهو شديد الحرص على تعزيز وتفعيل الجوانب المشتركة بشتى الوسائل، ولهذا يرى الغرب في نفسه أنه كيان واحد، ما يجمعه أكثر مما يفرقه، كما يرى في التهديدات الخارجية خطراً يمس العالم الغربي بأكمله؛ مما يستدعي توحيد الجهود لمواجهتها. وقد ظهرت هذه الرؤية – بشكل جلي وواضح – على المستويين النظري والعملي.
فعلى المستوى النظري جاءت نظريتان تشرحان وتعبران عن الفكر الغربي العام، وهما نظرية (نهاية التاريخ) ونظرية (صدام الحضارات)، ورغم أن النظريتين تعتمدان على تصورين مختلفين - وهو أمر طبيعي لاختلاف الرؤى والتصورات- لكنهما يلتقيان في رؤية الغرب لنفسه ونظرته للآخرين – وسيأتي توضيح ذلك.
أما المستوى العلمي فيتمثل – بصورة أساسية – في الاتحاد الأوروبي وهو تكتل سياسي، وفي حلف شمال الأطلسي (الناتو) وهو تكتل عسكري..فكلاهما ظهر لهدف واحد هو توحيد الدول الغربية وتعزيز التعاون الداخلي والدفاع الخارجي. فالاتحاد الأوروبي بدأ بأوروبا الغربية، وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي وزوال هيمنته على أوروبا الشرقية، بدأ الاتحاد بالتوسع ليشمل بقية دول أوروبا لتصبح القارة كياناً موحداً سياسياً واقتصادياً وأميناً. أما (الناتو) فأكثر شمولية حيث ربط أوروبا بأمريكا الشمالية عسكرياً، وسياسياً أيضاً.
وبدايته كانت نفس بداية الاتحاد الأوروبي مقتصراً على الدول الرأسمالية لمواجهة الخطر السوفييتي الشيوعي، وبعد انهيار هذا الخطر بدأ يتوسع أيضاً ليشمل بقية أوروبا تطبيقاً لأهدافه ومبادئه القائمة على "ترسيخ استقرار ورفاهية" أوروبا وأمريكا الشمالية (الأورو أطلسي)؛ أي أنه كالاتحاد الأوروبي تكتل غربي خاص لا يسمح لطرف خارجي الانضمام إليه، باستثناء تركيا.
لكن هذا الاستثناء جاء لظروف خاصة فرضت نفسها، وقد لخصها د/ عماد جاد – في كتابه (حلف الأطلنطي، مهام جديدة في بيئة أمنية مغايرة)- بقوله إن تركيا كانت في مقدمة الدول المعرضة للهجوم السوفييتي، كما أن الحرب الكورية – في الخمسينات – أثبتت حاجة الناتو إلى تركيا لاستكمال عملية محاصرة الاتحاد السوفييتي، إضافة إلى أن العداء التاريخي بين تركيا واليونان لعب دوراً في ضمها إلى الحلف ومعها اليونان – التي كانت غير مهيأة سياسياً للانضمام في ذلك الوقت – حتى لا يستغل السوفييت هذا العداء.
إذاً، يتضح أن الغرب له نظام مشترك يحرص على الحفاظ عليه وتعزيزه، ولا شك أن تعامله سيكون من هذا المنطلق مع العالم الإسلامي..وإذا كان لكل دولة غربية خصوصياتها وسياساتها المستقلة ومصالحها الخاصة إلا أنه لن يخرج عن النظام الغربي المشترك، وهذا ما يتم تطبيقه على العالم الإسلامي.
بقي أن أقول إن الحديث عن الغرب لا ينفي الاعتراف بأن في الغرب مواقف وتوجهات معتدلة ومنصفة في تعاملها مع المسلمين وقضاياهم. ولكن للأسف تظل تلك المواقف ضعيفة وغير مؤثرة بشكل كبير.
مرجعية التدمير
يمكن تقسيم الرؤية الغربية للعالم الإسلامي إلى قسمين رئيسيين:
القسم الأول: يفضل المواجهة والمصادمة المباشرة (العنف) عبر العمل العسكري. وتنتشر هذه الرؤية بين التيارات الدينية الغربية المتطرفة، ومن بين هذه التيارات (المحافظون الجدد) في أمريكا.
القسم الثاني: يفضل التغلغل الفكري الممنهج داخل المجتمعات الإسلامية، وغرس الثقافة الغربية بعد تزيينها وتلميعها.
وتنتشر هذه الرؤية في الأوساط العلمانية والليبرالية الغربية، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه الأوساط قد تميل أحياناً إلى العمل العسكري ضد دول إسلامية، كالذي حصل عند احتلال أفغانستان والعراق؛ فقد أيد أغلب الأمريكيين (من الشعب والمثقفين والسياسيين) بمختلف تياراتهم العمل العسكري ضد العراق وأفغانستان. كذلك أجمع الغرب على احتلال أفغانستان بحجة محاربة "الإرهاب".
ولا يعني من هذا التقسيم أن الغرب كله محشور في هذين القسمين، بل هناك من له رؤى مختلفة. وهناك من لا يهتم بهذا الأمر. والحديث هنا عن قسمين رئيسيين معنيين – نظرياً وعملياً – برسم العلاقة الغربية مع العالم الإسلامي..ولكل من القسمين مرجعياته الفكرية والسياسية، ويمكن تلخيص مرجعيات القسمين بأشهر نظريتين غربيتين برزتا في العقدين الأخيرين. وهما نظرية (صدام الحضارات)، ونظرية (نهاية التاريخ).
نظرية (صدام الحضارات)
النظرية الأولى (صدام الحضارات) تعبر عن القسم الأول من العقلية أو الرؤية الغربية تجاه الأمم الأخرى، خصوصاً تجاه الإسلام والمسلمين..وصاحبها أمريكي متطرف مشهور يدعى صامويل هنتنجتون الذي كتب - في صيف 1993م - مقالاً بعنوان (صدام الحضارات)، ونشرته مجلة (Foreign Affairs) (الشؤون الخارجية) الأمريكية. وقد أثار المقال جدلاً واسعاً استمر ثلاث سنوات، بل إن هذا المقال – كما يقول محررو المجلة – أثار الجدل أكثر من أي مقال نشرته المجلة منذ أربعينات القرن العشرين.
وكانت فكرة المقال – حسب قول صاحبه – هي أن البعد الرئيسي والأكثر خطورة في السياسة الكونية الناشئة سوف يكون الصدام بين جماعات من الحضارات المختلفة..والجدل الذي أثاره المقال دفع بكاتبه – كما يقول - إلى إصدار كتاب أشمل وأوسع وأكثر جدلاً صدر سنة 1996م بنفس العنوان مع إضافة فرعية توضيحية: (صدام الحضارات..إعادة صنع النظام العالمي).
يرى المؤلف فيه أن الصراع بين الحضارات بعد الحرب الباردة سيكون ثقافياً وليس أيديولوجياً أو اقتصادياً. وقام المؤلف بتقسيم الحضارات العالمية إلى ثمان حضارات، هي: الحضارة الغربية، الحضارة الأمريكية اللاتينية، الحضارة الإفريقية، الحضارة الإسلامية، الحضارة الصينية، الحضارة الهندية، الحضارة المسيحية الأرثوذكسية (المقصود بها الأرثوذكسية الروسية)، الحضارة اليابانية"..ثم عاد واختزل هذه الحضارات – بطريقة عنصرية – في حضارتين كبيرتين، هما: (الحضارة الغربية)، و(الباقي). ويقصد بـ(الباقي) بقية الحضارات.
ويهدف من هذا التقسيم إلى أمرين:
الأول: هو أنللغرب حضارة فريدة متميزة تتمتع بالرقي والتقدم الثقافي والفكري؛ ولهذا فهي حضارة مستقلة بذاتها.
الثاني: جعل بقية الحضارات في خانة واحدة لاشتراكها بصفات التخلف والرجعية؛ ولأن ثقافتها لا ترتقي إلى مستوى الحضارة الغربية.
ويرى المؤلف أن بقية الحضارات تهدد الحضارة الغربية. وشدد على أن الحضارة الإسلامية هي الأكثر خطورة على الغرب، تليها الحضارة الصينية، مع الفرق بين بماهية الخطورة في الحضارتين، فخطورة الحضارة الصينية تتمثل بالجانب الاقتصادي والعسكري، التنافس على النفوذ. أما الحضارة الإسلامية فخطرها عقدي فكري.
وقال: "إن بقاء الغرب يتوقف على الأمريكيين بتأكيدهم على الهوية الغربية، وعلى الغربيين عندما يقبلون حضارتهم كحضارة فريدة، وليست عامة، ويتحدون من أجل تجديدها والحفاظ عليها ضد التحديات القادمة من المجتمعات غير الغربية". وهذه المقولة تلخص مضمون الجزء الخامس من كتاب (صراع الحضارات).
وترى نظرية (صدام الحضارات) أن الغرب يتفوق على غيره (الباقي) بثمان خصائص، هي:
* التراثالكلاسيكي من الإغريق والرومان.
* المسيحية الغربية الكاثوليكية والبروتستانتية، وهنا نلاحظ أن النظرية لا تعترف بالمسيحية الأرثوذكسية الشرقية ضمن الحضارة الغربية، بل صنفتها ضمن الحضارات الأخرى المتخلفة.
* اللغاتالأوروبية. * الفصل بين السلطتين الروحية والزمنية. * حكم القانون. * التعددية الاجتماعية والمجتمع المدني. * الهيئات التمثيلية.
* النزعةالفردية بمفهوم التحرر من قيود المجتمع.
وبمجموع هذه السمات يتكون المُركّب الغربي (المميز عن باقي الحضارات).
نظرية(نهاية التاريخ)
تعبر هذه النظرية عن القسم الثاني، وصاحبها مؤرخ أكاديمي أمريكي – من أصل ياباني – يدعى فرانسيس فوكوياما، وهو يحمل خليطاً من الأفكار اليمينية المحافظة، والأفكار العلمانية الليبرالية..لقد ظهر تشدده عندما وقّع – مع مجموعة من السياسيين الأمريكيين المتطرفين – على رسالة تطالب بشن هجوم عسكري على العراق وإسقاط نظام صدام حسين لإعادة ترتيب النظام الإقليمي في الشرق الأوسط. وقاموا بتسليم الرسالة إلى الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون في فبراير 1998م.
أما ليبراليته فقد ظهرت في نظريته الشهيرة (نهاية التاريخ)، التي صدرت على شكل كتاب سنة 1992م. وقد أثارت هذه النظرية جدلاً واسعاً لا يقل عما أثارته (صدام الحضارات).
في أواخر سنة 1989م نشر فوكوياما مقالاً تحت عنوان (نهاية التاريخ ) طرح فيه عدة رؤى، لخصها عبد الجليل محمد كامل - في كتابه (الجزيرة العربية والنظام العالمي الجديد)- كالتالي:
* إن البشرية قد وصلت إلى ذروة تطورها، وأن جميع المشاكل الكبرى التي تعترض البشرية قد انتهت.
* إن التاريخ قد وصل إلى نهاية خط التطور الأيديولوجي البشري، وانتهى إلى نقطة تعميم الديمقراطية الغربية؛ بوصفها الشكل النهائي لحكم البشرية.
* إن الدولة القومية في طريقها إلى الزوال؛ حيث لن تصمد أمام القوى الاقتصادية العالمية التي ستخلق ثقافة عالمية متجانسة التكوين مما سيجعل الدولة شيئاً زائداً لا ضرورة له.
* إن الخطر المحتمل يأتي من الأديان والقوميات، باستثناء اليهودية والمسيحية اللتين تخلتا عن دعوى إقامة دولة ثيوقراطية (دينية).
* إن الإسلام هو الوحيد الذي لا يزال يدعو إلى إقامة دولة دينية، وإن القومية شديدة في بلاد الجنوب (يقصد العالم الثالث).
* إن البشرية ستنقسم إلى كتلتين، كتلة غارقة في التاريخ (دول الجنوب)، وكتلة وصلت إلى نهاية التاريخ (يقصد الغرب)، وإن الأولى ستشهد الصراع والنزاع في المستقبل.
وفي سنة 1992م أصدر فوكوياما كتاباً بعنوان (نهاية التاريخ والإنسان الأخير)، وفيه توسع المؤلف في عرض الرؤى التي نشرها من قبل. ومما شجعه على ذلك سقوط الشيوعية وانتصار الرأسمالية الغربية عليها؛ حيث يرى في ذلك تأكيداً (لتنبؤاته) السابقة.
لكن الرجل ظهر له موقف مغاير بعد احتلال العراق وإسقاط نظام صدام حسين، فقد أبدى انتقاداته للحرب وإدارة بوش وقال – في حوار مع مجلة (نيوزويك) في 30 سبتمبر 2008م – إن الحرب على العراق لوثت الديمقراطية التي يروج لها الغرب.
العلاقة بين النظريتين:
تتفق نظرية (نهاية التاريخ) مع نظرية (صدام الحضارات) في جوانب، وتختلف عنها في جوانب أخرى.
جانب الاتفاق يتمثل في النزعة العنصرية والنظرة الفوقية لدى الغرب؛ حيث ترى نظرية (نهاية التاريخ) أن الديمقراطية الليبرالية الغربية والرأسمالية الغربية هي آخر وأفضل ما وصل إليه العقل البشري، وهي المحطة الأخيرة في مسيرة الحياة البشرية نحو أشكال الحكم. وترى أيضاً أن الديمقراطية الليبرالية هي الشكل الشرعي الوحيد للحكم المقبول في العالم؛ أي أن التاريخ قد وصل إلى نهاية النشاط الفكري العقلي.
عنصرية (نهاية التاريخ) هنا لا تختلف عن عنصرية (صدام الحضارات) في الاعتقاد بتفوق الغرب على غيره (الباقي)؛ ومن هنا قسمت نظرية (نهاية التاريخ) العالم إلى قسمين، عالم متقدم وعالم متخلف..وتتفق النظريتان أيضاً في النظرة للإسلام باعتباره الخطر الأكبر لدى (صدام الحضارات)، والوحيد لدى (نهاية التاريخ).
أما جوانب الاختلاف بين النظريتين فيتمثل – بصورة أساسية – في مفهوم الصراع العالمي..فنظرية (نهاية التاريخ) ترى أن الصراع الكبير في العالم قد انتهى بعد الحرب الباردة وسقوط الشيوعية، وأن العالم أصبح قرية واحدة، ومنسجماً نسبياً.
حيث يقول فوكوياما: "ربما كنا نشهد نهاية التاريخ بما هو: نقطة النهاية للتطور الأيدلوجي للبشرية وتعميم الليبرالية الديمقراطية الغربية على مستوى العالم كشكل نهائي للحكومة الإنسانية".
ثم يقول: "وللتأكيد فقد تحدث بعض الصراعات في أماكن من العالم الثالث، ولكن الصراع الكبير قد انتهى.. وسوف يكون المستقبل مكرساً ليس من أجل الصراعات الكبرى الحامية حول الأفكار، بل بالأحرى من أجل حل المشكلات الاقتصادية والفنية المعاشة".
وهذه الرؤية ترفضها نظرية (صدام الحضارات)، إذ يقول صاحبها: إن لحظة الشعور بالبهجة في نهاية الحرب الباردة ولدت وهماً بالتوافق والانسجام، الذي سرعان ما تكشف أنه وهم بالفعل..وسرعان ما تبدد بسبب تضاعف الصراعات العرقية والتطهير العرقي، وانهيار النظام والقانون، وبروز أشكال جديدة من التحالفات والصراعات بين الدول..وترى النظرية أن العالم سيعيش صراعاً بين الحضارة المتقدمة (الغرب) والحضارات المتخلفة (بقية الشعوب).
العاملالمشترك:
الذي يهمنا في هذا التحليل وجود عوامل مشتركة لدى النظريتين تنعكس سلباً على العالم الإسلامي في كافة الجوانب..فكلتا النظريتين تمثلان وجهين لعملة واحدة، وطريقين إلى هدف واحد هو زعزعة العالم الإسلامي وإضعافه كي يظل تابعاً للحضارة الغربية خاضعاً لمصالحها.
ولأن الإسلام هو الخطر الأساسي – لدى النظريتين- فمن مصلحة الغرب أن يظل أتباع هذا الدين ضعفاء مفككين..ولأجل ذلك نجد التحركات الغربية في مواجهة الإسلام تستند إلى عدد من الوسائل، وكلها تدخل في نطاق النظريتين السابق ذكرهما، ومن بين هذه الوسائل:
* تشويه الإسلام داخل المجتمعات الغربية، من خلال إظهاره بأنه دين (التخلف) و (العنف)، وتشمل علميات التشويه المسلمين ومقدساتهم، ورموزهم، ويتم استغلال بعض التصرفات الخاطئة عند بعض المسلمين، وإلصاقها بالإسلام والمسلمين كافة، بعد عمليات التضخيم والتهويل، وبذلك تستمر عملية بناء العقدة التاريخية الغربية ضد العالم الإسلامي.
ومن هنا نلاحظ انتشار ظاهرة الخوف من الإسلام في الغرب (الإسلاموفوبيا)، وكذلك نمو ظاهرة التمييز الشعبي والسياسي ضد مسلمي الغرب، وما قضايا محاربة الحجاب وسب النبي إلا جزء مما يدور في العقلية الغربية. وصحيح أن هناك بعض الأصوات الغربية تدافع عن المسلمين ودينهم وقضاياهم إلا أنها دون مستوى التأثير، وأقل من أن تنظر إليها المجتمعات الغربية بعين الاهتمام.
* شن الحروب على بلدان إسلامية ومحاصرة أخرى وإثارة الفتن فيها، وهذا الأسلوب القديم المتجدد نابع من مفعول الأسلوب السابق، واعتماداً عليه أيضاً في بناء القاعدة الشعبية المؤيدة لهذه العملية أو تلك.
* تصدير الثقافة الغربية إلى المجتمعات الإسلامية، بالوسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والثقافية، وغير ذلك.وهذا الأسلوب يحقق هدفين:
الأول: إبعاد المسلمين عن دينهم وعقيدتهم (أسلوب التخلية).
الثاني: ربطهمبالثقافة الغربية التي تم تزيينها في عقولهم (أسلوب التحلية)، وكلما ابتعد المسلم عن دينه كلما اقترب من الثقافة الغربية.
وبوجود تيارات وأطراف محلية تتبنى أفكاراً خارجية غريبة عن المجتمع؛ تنشا عوامل الصراع والتصادم الداخلي بين من يؤمن بها ومن يرفضها، فينشغل الجميع بهذه الصراعات عن بناء المجتمع والإنسان.
وبمجموع تلك الوسائل وغيرها استطاع الغرب أن يخلق مظاهر الضعف وثقافة التفرقة في المجتمعات الإسلامية، وهي ظاهرة للعيان غير خافية. وأصبحت التبعية حقيقة واقعية عند المسلمين؛ حيث فقدوا الثقة بالله، وفقدوا الثقة بالنفس، وخسروا عوامل التماسك والقوة وأصبحوا تابعين للغرب سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وعلمياً، وفي كل الأمور..ولم يكتف الغرب بذلك، بل عمل على استغلال مظاهر الخلاف الموجودة بين المسلمين – التي غرس الغرب بعضها – لضرب بعضهم ببعض، إضافة إلى تغذية الصراع الديني بين المسلمين وغيرهم.
تيارات دينية
المسيحية الصهيونية:
أحمد الشجاع - عودة ودعوة
1/8/2009م
تمهيد:
الأديان.. العقائد..المذاهب..الطوائف..الفرق..الجماعات..الأعرا ق..الأجناس..الأمم، مكونات طبيعية في الحياة البشرية. والتعدد والاختلاف والتنوع سنن من سنن الله الكونية والشرعية..ومن الطبيعي أن يتم التعارف والتعايش والتعاون، والتصادم والتضارب؛ لأسباب محكومة بمبادئ الحق أو نوازع الباطل أو دوافع المصالح..وكما سارت البشرية من قبل ستواصل مسيرها على هذا المنوال ما دام الخير والشر باقيان.
وقد جاء الإسلام ليعرفنا بحقيقة الحياة، ودلنا على الطريق الواضح إلى فهمها والأسلوب الصحيح في التعامل معها؛ فيكتمل بذلك المنهج الإلهي الذي أنزله الله تعالى على أنبيائه ورسله من قبل، فالله أعلم بخلقه وبما يضرهم وينفعهم..ولما جاء الإسلام ليصحح مسار البشرية الذي انحرف، وقفت ضده قوى الشر محاولةً إطفاء نوره، ولكن الله أراد لنوره أن يتم، فانطلق المسلمون يشقون طريقهم نحو العالم مستهدين بنور الإسلام ليزيلوا ظلمات الغي.
ولحكمة يريدها الله؛ ولأن الخير والشر في صراع دائم، ظهرت الفُرقة بين المسلمين، ونشأت الفرق والطوائف، بعضها جاء عن جهل وهوى، وبعضها صنعت بأيد خارجية تكيد للإسلام وتسعى لضربه من الداخل بعد أن عجزت عن صده، وعرفت أن المواجهة المباشرة لا تفلح، وأدركت أن سر قوة المسلمين في وحدتهم، وأن هذه الوحدة لا تقوم ولا تدوم إلى بمنهج يوحد عقولهم وقلوبهم: [ واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا...]..ولا زالت الأيدي الخارجية تعمل عملها إلى اليوم بنفس العقلية القديمة، ولكن بأدوات ووسائل وطرق تختلف باختلاف الزمان والمكان والظروف.
ولا شك أن كل تدخل أجنبي لا يأتي بخير، بل الشر مطيته والفتنة سلاحه..فهو الذي زرع الفتنة في قلب العالم الإسلامي (إسرائيل)، وهو الذي أيقظها في العراق، وصنعها في السودان، وأنشأها في الصومال، وثبتها في لبنان.. الخ.
وبشكل سريع ومختصر سنحاول هنا عرض بعض مظاهر الصراع الطائفي والعرقي في العالم الإسلامي (يشمل أيضاً الوطن العربي)، ودور التدخل الأجنبي (المقصود به هنا الغرب) في تلك الأحداث.
دين أم مصالح
يرفض البعض القول إن للغرب أهدافاً دينية تجاه العالم الإسلامي في هذا العصر، وحجتهم في ذلك أن الغرب أصبح كياناً علمانياً مادياً بعد أن أزاح الدين من شئون حياته، ولم يعد يفكر إلا في المصالح الاقتصادية بالدرجة الأولى، فهي الركيزة الأساسية لبناء الدولة القوية..ويرى هؤلاء - مثلاً - أن نفط قزوين سبب احتلال أفغانستان، واحتلال العراق يهدف إلى السيطرة على نفطه ونفط المنطقة.
أما القول إن الغرب أصبح كياناً علمانياً فهو صحيح، وهو أمر واقع، ولكن لا يلزم من ذلك أن الدين أصبح بعيداً تماماً عن الفكر السياسي الغربي، فلا زال للدين تأثيره في السياسة الخارجية الغربية تجاه العالم الإسلامي والشواهد على ذلك موجودة في الواقع العملي. آخرها وأبرزها العراق، وسيأتي بيان ذلك.
والجديد في الأمر هو أن الخطاب السياسي تحول من الكنيسة إلى الحكومة، ومن الطبيعي أن تتغير لغة الكلام، ومفردات الخطاب المصبوغة بدبلوماسية التعبير، وآليات التنفيذ. وإذا لم يكن الغرب يستخدم الدين في خطابه الرسمي فهو يستخدمه على أرض الواقع..فلم يعد – في نظر الغرب – مناسباً الإعلان رسمياً بأن الإسلام هو الخطر الحقيقي، فهذه لغة الكنيسة.. والبديل هو (الإرهاب) و(التطرف) و(العنف)، وهي مصطلحات عامة ومطاطة يمكن التلاعب بها.
ولكن على أرض الواقع فالمعني بهذه المصطلحات هم المسلمون جميعاً؛ بحجة أن بعضهم حمل السلاح في وجه الغرب..أيضاً لم يعد الخطاب الرسمي الغربي يدعو صراحة إلى محاربة الإسلام وتدميره بالقوة العسكرية، فهذا أيضاً كان في لغة الكنيسة. والبديل هو ضربه من الداخل بالوسائل الثقافية والفكرية عبر تصدير وغرس الثقافة الغربية في عقول المسلمين لتحل محل الإسلام، وقد تعددت الوسائل ولكن الهدم واحد:
فالعلمانية تلغي الدين من حياة الناس فتجعلهم في خواء روحي..والليبرالية تنزع الفرد من مجتمعه وتحوله إلى كائن تائه دون مبادئ أو ثوابت، وما له من قرار..والرأسمالية تجعل المجتمع عبداً للمال، يسيطر عليه الجشع والطمع، وآلة للاستهلاك فقط..هذه الأفكار، وغيرها، يجاهد الغرب بكل ما أوتي من قوة في سبيل نشرها داخل المجتمعات الإسلامية، وقطع شوطاً كبيراً، فما مصلحته من ذلك؟.
عندما تنتشر هذه الأفكار في مجتمع من المجتمعات يصبح مفككاً.. فلا عقيدة توحد الناس، ولا مبادئ وثوابت يجتمعون عليها، ولا مصالح مشتركة يتعاونون لأجلها.. والنتيجة مجموعة من الكائنات البشرية الشاردة والمتصارعة. كذلك تضعف النزعة الوطنية (التمسك بالوطن، والدفاع عنه؛ فيصبح المصاب بهذه الأفكار أكثر استغلالاً لبيع وطنه مقابل مصالحه ومطامعه).
ولمن أراد معرفة الأثر العقدي في السياسة الغربية تجاه العالم الإسلامي عليه ألا يكتفي بالنظر في المواقف الرسمية المعلنة – رغم أن بعضها يحمل أحياناً إشارات عقدية – بل عليه أن ينظر في البيئة الفكرية التي جاء منها إلى السلطة هذا المسئول أو ذاك الحزب أو تلك الحكومة.. فالمرء ابن قومه، وجزء من مجتمعه الذي أوصله إلى السلطة. وقد تحدُث بعض الاستثناءات لظروف مرحلية تستدعي ذلك.
وانطلاقاً من ذلك سوف نتحدث عن البيئة الفكرية والعقدية التي أثرت ولا زالت تؤثر في النظرة الغربية العنصرية تجاه المسلمين والإسلام، مع تركيز الحديث عن أمريكا؛ بحكم أنها الأكثر نفوذاً وهيمنة في العالم؛ ولأنها رأس الحربة الغربية في العصر الحاضر. ثم نستعرض بعض ملامح الواقع المتأثر بتلك البيئة.
والهدف من ذلك توضيح أن ما يحصل في العالم الإسلامي من اضطرابات وفتن وصراعات بفعل التدخلات الغربية لم تكن لأغراض ومصالح اقتصادية فقط بل للعقائد دورها، فقد تقع أحياناً أحداث تتعارض مع المصالح الاقتصادية، أو لا تتحقق عن طريقها، فحينها نفتش عن الجانب العقدي والجانب السياسي. لمعرفة الأسباب..أما المصالح الاقتصادية فلاشك أنها موجودة ضمن مجريات الأحداث، إما سبباً رئيسياً، أو سبباً ثانوياً. وأكثر وضوحاً من غيرها، ويسهل ربط الأحداث بها؛ ولهذا لم أركز عليها في هذا الموضوع.
مقصود الحديث:
درءاً لسوء الفهم، وتوضيحاً لفكرة هذا التحليل؛ لا بد من بيان ما نريد طرحه في الحديث عن الغرب والعقيدة الغربية، وما المقصود من ذلك.
أولاً: بالنسبة للحديث عن العقيدة الغربية هنا ليس محصوراً بالجانب الديني فقط، بل يشمل الجوانب السياسية والفكرية والاقتصادية، وغير ذلك، وهي جوانب تتداخل كثيراً فيما بينها على شكل منظومة تحددها السلوكيات والمهام العملية.
فمن الخطأ النظر إلى الأحداث من منظار واحد، أو ربطها في جانب واحد فقط وإهمال بقية الجوانب التي تؤثر وتتأثر بالأحداث..ولكن يمكن التركيز على جانب واحد أو أكثر بناءً على درجة حضوره في مسرح الحدث ودوره في صناعته، وبحسب الظروف التي تدفع إلى إبراز أكثر الجوانب تأثيراً.
أيضاً، دائماً ما تتأثر تلك الجوانب ببعضها البعض، ويغلب بعضها على بعض؛ مما يؤدي إلى الكثير من التغيرات والتحولات في كافة المستويات.
فالسياسة الأمريكية - مثلاً - كانت تفضل عدم التدخل في الشؤون العالمية قبل الحرب العالمية الثانية، ولكن المصالح الاقتصادية غلبت على التوجه السياسي بفعل الظروف التي هيأتها الحرب العالمية الثانية.
وبناء على ما سبق ركزت في هذا الموضوع على الجانب العقدي والفكري لعدة أسباب، منها:
* أن العقائدتظل باقية، فقد يعتريها بعض الضعف والتراجع إلا أنها لا تزول. على عكس بقية الجوانب التي سرعان ما تتبدل وتتغير.
* العقائد أكثر تأثيراً على العقلية الغربية على مر العصور..وتبعاً لذلك لا زال الإسلام في نظر الغرب هو العدو الأول، فمنذ الحروب الصليبية وإلى الآن تظل التدخلات والاعتداءات الغربية على العالم الإسلامي مصبوغة – بصفة عامة – بالصبغة العقدية، بصرف النظر عن تفاصيل التدخلات، ومكانها وزمانها، وأسبابها وظروفها.
* لم تقتصر التدخلات الغربية في العالم الإسلامي على الوسائل العسكرية والاقتصادية التي تستهدف الأرض وثرواتها، بل شملت الوسائل العقدية والفكرية التي تستهدف الإنسان ومبادئه ومعتقداته وتقاليده.
* الأفكار والثقافات الغربية – المنتشرة بين المسلمين - ساهمت بشكل كبير في توسيع الانقسامات بين المسلمين وزيادة حدة الصراع الداخلي.
* الأسلوب الغربي في مواجهة العالم الإسلامي يختلف عن أسلوب مواجهة القوى العالمية الأخرى، فمواجهة الغرب للنفوذين الصيني والروسي محصور في المسائل الاقتصادية والعسكرية، ولم نسمع عن محاولة فرض الثقافة الغربية على هذه البلدين، مع العلم أنه يمكن للثقافة الغربية الدخول إلى هذين البلدين بفعل وسائل التقارب والتواصل وليس بوسائل الابتزاز والضغوط والتهديدات التي تطبق على المجتمعات الإسلامية.
الأمر الثاني الذي أريد توضيحه هو أن الحديث عن الغرب ككيان واحد يأتي امتداداً لما سبق ذكره في العقيدة الغربية، وهو أن الغرب كان ولا يزال يتعامل بعقلية مشتركة، وهو شديد الحرص على تعزيز وتفعيل الجوانب المشتركة بشتى الوسائل، ولهذا يرى الغرب في نفسه أنه كيان واحد، ما يجمعه أكثر مما يفرقه، كما يرى في التهديدات الخارجية خطراً يمس العالم الغربي بأكمله؛ مما يستدعي توحيد الجهود لمواجهتها. وقد ظهرت هذه الرؤية – بشكل جلي وواضح – على المستويين النظري والعملي.
فعلى المستوى النظري جاءت نظريتان تشرحان وتعبران عن الفكر الغربي العام، وهما نظرية (نهاية التاريخ) ونظرية (صدام الحضارات)، ورغم أن النظريتين تعتمدان على تصورين مختلفين - وهو أمر طبيعي لاختلاف الرؤى والتصورات- لكنهما يلتقيان في رؤية الغرب لنفسه ونظرته للآخرين – وسيأتي توضيح ذلك.
أما المستوى العلمي فيتمثل – بصورة أساسية – في الاتحاد الأوروبي وهو تكتل سياسي، وفي حلف شمال الأطلسي (الناتو) وهو تكتل عسكري..فكلاهما ظهر لهدف واحد هو توحيد الدول الغربية وتعزيز التعاون الداخلي والدفاع الخارجي. فالاتحاد الأوروبي بدأ بأوروبا الغربية، وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي وزوال هيمنته على أوروبا الشرقية، بدأ الاتحاد بالتوسع ليشمل بقية دول أوروبا لتصبح القارة كياناً موحداً سياسياً واقتصادياً وأميناً. أما (الناتو) فأكثر شمولية حيث ربط أوروبا بأمريكا الشمالية عسكرياً، وسياسياً أيضاً.
وبدايته كانت نفس بداية الاتحاد الأوروبي مقتصراً على الدول الرأسمالية لمواجهة الخطر السوفييتي الشيوعي، وبعد انهيار هذا الخطر بدأ يتوسع أيضاً ليشمل بقية أوروبا تطبيقاً لأهدافه ومبادئه القائمة على "ترسيخ استقرار ورفاهية" أوروبا وأمريكا الشمالية (الأورو أطلسي)؛ أي أنه كالاتحاد الأوروبي تكتل غربي خاص لا يسمح لطرف خارجي الانضمام إليه، باستثناء تركيا.
لكن هذا الاستثناء جاء لظروف خاصة فرضت نفسها، وقد لخصها د/ عماد جاد – في كتابه (حلف الأطلنطي، مهام جديدة في بيئة أمنية مغايرة)- بقوله إن تركيا كانت في مقدمة الدول المعرضة للهجوم السوفييتي، كما أن الحرب الكورية – في الخمسينات – أثبتت حاجة الناتو إلى تركيا لاستكمال عملية محاصرة الاتحاد السوفييتي، إضافة إلى أن العداء التاريخي بين تركيا واليونان لعب دوراً في ضمها إلى الحلف ومعها اليونان – التي كانت غير مهيأة سياسياً للانضمام في ذلك الوقت – حتى لا يستغل السوفييت هذا العداء.
إذاً، يتضح أن الغرب له نظام مشترك يحرص على الحفاظ عليه وتعزيزه، ولا شك أن تعامله سيكون من هذا المنطلق مع العالم الإسلامي..وإذا كان لكل دولة غربية خصوصياتها وسياساتها المستقلة ومصالحها الخاصة إلا أنه لن يخرج عن النظام الغربي المشترك، وهذا ما يتم تطبيقه على العالم الإسلامي.
بقي أن أقول إن الحديث عن الغرب لا ينفي الاعتراف بأن في الغرب مواقف وتوجهات معتدلة ومنصفة في تعاملها مع المسلمين وقضاياهم. ولكن للأسف تظل تلك المواقف ضعيفة وغير مؤثرة بشكل كبير.
مرجعية التدمير
يمكن تقسيم الرؤية الغربية للعالم الإسلامي إلى قسمين رئيسيين:
القسم الأول: يفضل المواجهة والمصادمة المباشرة (العنف) عبر العمل العسكري. وتنتشر هذه الرؤية بين التيارات الدينية الغربية المتطرفة، ومن بين هذه التيارات (المحافظون الجدد) في أمريكا.
القسم الثاني: يفضل التغلغل الفكري الممنهج داخل المجتمعات الإسلامية، وغرس الثقافة الغربية بعد تزيينها وتلميعها.
وتنتشر هذه الرؤية في الأوساط العلمانية والليبرالية الغربية، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه الأوساط قد تميل أحياناً إلى العمل العسكري ضد دول إسلامية، كالذي حصل عند احتلال أفغانستان والعراق؛ فقد أيد أغلب الأمريكيين (من الشعب والمثقفين والسياسيين) بمختلف تياراتهم العمل العسكري ضد العراق وأفغانستان. كذلك أجمع الغرب على احتلال أفغانستان بحجة محاربة "الإرهاب".
ولا يعني من هذا التقسيم أن الغرب كله محشور في هذين القسمين، بل هناك من له رؤى مختلفة. وهناك من لا يهتم بهذا الأمر. والحديث هنا عن قسمين رئيسيين معنيين – نظرياً وعملياً – برسم العلاقة الغربية مع العالم الإسلامي..ولكل من القسمين مرجعياته الفكرية والسياسية، ويمكن تلخيص مرجعيات القسمين بأشهر نظريتين غربيتين برزتا في العقدين الأخيرين. وهما نظرية (صدام الحضارات)، ونظرية (نهاية التاريخ).
نظرية (صدام الحضارات)
النظرية الأولى (صدام الحضارات) تعبر عن القسم الأول من العقلية أو الرؤية الغربية تجاه الأمم الأخرى، خصوصاً تجاه الإسلام والمسلمين..وصاحبها أمريكي متطرف مشهور يدعى صامويل هنتنجتون الذي كتب - في صيف 1993م - مقالاً بعنوان (صدام الحضارات)، ونشرته مجلة (Foreign Affairs) (الشؤون الخارجية) الأمريكية. وقد أثار المقال جدلاً واسعاً استمر ثلاث سنوات، بل إن هذا المقال – كما يقول محررو المجلة – أثار الجدل أكثر من أي مقال نشرته المجلة منذ أربعينات القرن العشرين.
وكانت فكرة المقال – حسب قول صاحبه – هي أن البعد الرئيسي والأكثر خطورة في السياسة الكونية الناشئة سوف يكون الصدام بين جماعات من الحضارات المختلفة..والجدل الذي أثاره المقال دفع بكاتبه – كما يقول - إلى إصدار كتاب أشمل وأوسع وأكثر جدلاً صدر سنة 1996م بنفس العنوان مع إضافة فرعية توضيحية: (صدام الحضارات..إعادة صنع النظام العالمي).
يرى المؤلف فيه أن الصراع بين الحضارات بعد الحرب الباردة سيكون ثقافياً وليس أيديولوجياً أو اقتصادياً. وقام المؤلف بتقسيم الحضارات العالمية إلى ثمان حضارات، هي: الحضارة الغربية، الحضارة الأمريكية اللاتينية، الحضارة الإفريقية، الحضارة الإسلامية، الحضارة الصينية، الحضارة الهندية، الحضارة المسيحية الأرثوذكسية (المقصود بها الأرثوذكسية الروسية)، الحضارة اليابانية"..ثم عاد واختزل هذه الحضارات – بطريقة عنصرية – في حضارتين كبيرتين، هما: (الحضارة الغربية)، و(الباقي). ويقصد بـ(الباقي) بقية الحضارات.
ويهدف من هذا التقسيم إلى أمرين:
الأول: هو أنللغرب حضارة فريدة متميزة تتمتع بالرقي والتقدم الثقافي والفكري؛ ولهذا فهي حضارة مستقلة بذاتها.
الثاني: جعل بقية الحضارات في خانة واحدة لاشتراكها بصفات التخلف والرجعية؛ ولأن ثقافتها لا ترتقي إلى مستوى الحضارة الغربية.
ويرى المؤلف أن بقية الحضارات تهدد الحضارة الغربية. وشدد على أن الحضارة الإسلامية هي الأكثر خطورة على الغرب، تليها الحضارة الصينية، مع الفرق بين بماهية الخطورة في الحضارتين، فخطورة الحضارة الصينية تتمثل بالجانب الاقتصادي والعسكري، التنافس على النفوذ. أما الحضارة الإسلامية فخطرها عقدي فكري.
وقال: "إن بقاء الغرب يتوقف على الأمريكيين بتأكيدهم على الهوية الغربية، وعلى الغربيين عندما يقبلون حضارتهم كحضارة فريدة، وليست عامة، ويتحدون من أجل تجديدها والحفاظ عليها ضد التحديات القادمة من المجتمعات غير الغربية". وهذه المقولة تلخص مضمون الجزء الخامس من كتاب (صراع الحضارات).
وترى نظرية (صدام الحضارات) أن الغرب يتفوق على غيره (الباقي) بثمان خصائص، هي:
* التراثالكلاسيكي من الإغريق والرومان.
* المسيحية الغربية الكاثوليكية والبروتستانتية، وهنا نلاحظ أن النظرية لا تعترف بالمسيحية الأرثوذكسية الشرقية ضمن الحضارة الغربية، بل صنفتها ضمن الحضارات الأخرى المتخلفة.
* اللغاتالأوروبية. * الفصل بين السلطتين الروحية والزمنية. * حكم القانون. * التعددية الاجتماعية والمجتمع المدني. * الهيئات التمثيلية.
* النزعةالفردية بمفهوم التحرر من قيود المجتمع.
وبمجموع هذه السمات يتكون المُركّب الغربي (المميز عن باقي الحضارات).
نظرية(نهاية التاريخ)
تعبر هذه النظرية عن القسم الثاني، وصاحبها مؤرخ أكاديمي أمريكي – من أصل ياباني – يدعى فرانسيس فوكوياما، وهو يحمل خليطاً من الأفكار اليمينية المحافظة، والأفكار العلمانية الليبرالية..لقد ظهر تشدده عندما وقّع – مع مجموعة من السياسيين الأمريكيين المتطرفين – على رسالة تطالب بشن هجوم عسكري على العراق وإسقاط نظام صدام حسين لإعادة ترتيب النظام الإقليمي في الشرق الأوسط. وقاموا بتسليم الرسالة إلى الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون في فبراير 1998م.
أما ليبراليته فقد ظهرت في نظريته الشهيرة (نهاية التاريخ)، التي صدرت على شكل كتاب سنة 1992م. وقد أثارت هذه النظرية جدلاً واسعاً لا يقل عما أثارته (صدام الحضارات).
في أواخر سنة 1989م نشر فوكوياما مقالاً تحت عنوان (نهاية التاريخ ) طرح فيه عدة رؤى، لخصها عبد الجليل محمد كامل - في كتابه (الجزيرة العربية والنظام العالمي الجديد)- كالتالي:
* إن البشرية قد وصلت إلى ذروة تطورها، وأن جميع المشاكل الكبرى التي تعترض البشرية قد انتهت.
* إن التاريخ قد وصل إلى نهاية خط التطور الأيديولوجي البشري، وانتهى إلى نقطة تعميم الديمقراطية الغربية؛ بوصفها الشكل النهائي لحكم البشرية.
* إن الدولة القومية في طريقها إلى الزوال؛ حيث لن تصمد أمام القوى الاقتصادية العالمية التي ستخلق ثقافة عالمية متجانسة التكوين مما سيجعل الدولة شيئاً زائداً لا ضرورة له.
* إن الخطر المحتمل يأتي من الأديان والقوميات، باستثناء اليهودية والمسيحية اللتين تخلتا عن دعوى إقامة دولة ثيوقراطية (دينية).
* إن الإسلام هو الوحيد الذي لا يزال يدعو إلى إقامة دولة دينية، وإن القومية شديدة في بلاد الجنوب (يقصد العالم الثالث).
* إن البشرية ستنقسم إلى كتلتين، كتلة غارقة في التاريخ (دول الجنوب)، وكتلة وصلت إلى نهاية التاريخ (يقصد الغرب)، وإن الأولى ستشهد الصراع والنزاع في المستقبل.
وفي سنة 1992م أصدر فوكوياما كتاباً بعنوان (نهاية التاريخ والإنسان الأخير)، وفيه توسع المؤلف في عرض الرؤى التي نشرها من قبل. ومما شجعه على ذلك سقوط الشيوعية وانتصار الرأسمالية الغربية عليها؛ حيث يرى في ذلك تأكيداً (لتنبؤاته) السابقة.
لكن الرجل ظهر له موقف مغاير بعد احتلال العراق وإسقاط نظام صدام حسين، فقد أبدى انتقاداته للحرب وإدارة بوش وقال – في حوار مع مجلة (نيوزويك) في 30 سبتمبر 2008م – إن الحرب على العراق لوثت الديمقراطية التي يروج لها الغرب.
العلاقة بين النظريتين:
تتفق نظرية (نهاية التاريخ) مع نظرية (صدام الحضارات) في جوانب، وتختلف عنها في جوانب أخرى.
جانب الاتفاق يتمثل في النزعة العنصرية والنظرة الفوقية لدى الغرب؛ حيث ترى نظرية (نهاية التاريخ) أن الديمقراطية الليبرالية الغربية والرأسمالية الغربية هي آخر وأفضل ما وصل إليه العقل البشري، وهي المحطة الأخيرة في مسيرة الحياة البشرية نحو أشكال الحكم. وترى أيضاً أن الديمقراطية الليبرالية هي الشكل الشرعي الوحيد للحكم المقبول في العالم؛ أي أن التاريخ قد وصل إلى نهاية النشاط الفكري العقلي.
عنصرية (نهاية التاريخ) هنا لا تختلف عن عنصرية (صدام الحضارات) في الاعتقاد بتفوق الغرب على غيره (الباقي)؛ ومن هنا قسمت نظرية (نهاية التاريخ) العالم إلى قسمين، عالم متقدم وعالم متخلف..وتتفق النظريتان أيضاً في النظرة للإسلام باعتباره الخطر الأكبر لدى (صدام الحضارات)، والوحيد لدى (نهاية التاريخ).
أما جوانب الاختلاف بين النظريتين فيتمثل – بصورة أساسية – في مفهوم الصراع العالمي..فنظرية (نهاية التاريخ) ترى أن الصراع الكبير في العالم قد انتهى بعد الحرب الباردة وسقوط الشيوعية، وأن العالم أصبح قرية واحدة، ومنسجماً نسبياً.
حيث يقول فوكوياما: "ربما كنا نشهد نهاية التاريخ بما هو: نقطة النهاية للتطور الأيدلوجي للبشرية وتعميم الليبرالية الديمقراطية الغربية على مستوى العالم كشكل نهائي للحكومة الإنسانية".
ثم يقول: "وللتأكيد فقد تحدث بعض الصراعات في أماكن من العالم الثالث، ولكن الصراع الكبير قد انتهى.. وسوف يكون المستقبل مكرساً ليس من أجل الصراعات الكبرى الحامية حول الأفكار، بل بالأحرى من أجل حل المشكلات الاقتصادية والفنية المعاشة".
وهذه الرؤية ترفضها نظرية (صدام الحضارات)، إذ يقول صاحبها: إن لحظة الشعور بالبهجة في نهاية الحرب الباردة ولدت وهماً بالتوافق والانسجام، الذي سرعان ما تكشف أنه وهم بالفعل..وسرعان ما تبدد بسبب تضاعف الصراعات العرقية والتطهير العرقي، وانهيار النظام والقانون، وبروز أشكال جديدة من التحالفات والصراعات بين الدول..وترى النظرية أن العالم سيعيش صراعاً بين الحضارة المتقدمة (الغرب) والحضارات المتخلفة (بقية الشعوب).
العاملالمشترك:
الذي يهمنا في هذا التحليل وجود عوامل مشتركة لدى النظريتين تنعكس سلباً على العالم الإسلامي في كافة الجوانب..فكلتا النظريتين تمثلان وجهين لعملة واحدة، وطريقين إلى هدف واحد هو زعزعة العالم الإسلامي وإضعافه كي يظل تابعاً للحضارة الغربية خاضعاً لمصالحها.
ولأن الإسلام هو الخطر الأساسي – لدى النظريتين- فمن مصلحة الغرب أن يظل أتباع هذا الدين ضعفاء مفككين..ولأجل ذلك نجد التحركات الغربية في مواجهة الإسلام تستند إلى عدد من الوسائل، وكلها تدخل في نطاق النظريتين السابق ذكرهما، ومن بين هذه الوسائل:
* تشويه الإسلام داخل المجتمعات الغربية، من خلال إظهاره بأنه دين (التخلف) و (العنف)، وتشمل علميات التشويه المسلمين ومقدساتهم، ورموزهم، ويتم استغلال بعض التصرفات الخاطئة عند بعض المسلمين، وإلصاقها بالإسلام والمسلمين كافة، بعد عمليات التضخيم والتهويل، وبذلك تستمر عملية بناء العقدة التاريخية الغربية ضد العالم الإسلامي.
ومن هنا نلاحظ انتشار ظاهرة الخوف من الإسلام في الغرب (الإسلاموفوبيا)، وكذلك نمو ظاهرة التمييز الشعبي والسياسي ضد مسلمي الغرب، وما قضايا محاربة الحجاب وسب النبي إلا جزء مما يدور في العقلية الغربية. وصحيح أن هناك بعض الأصوات الغربية تدافع عن المسلمين ودينهم وقضاياهم إلا أنها دون مستوى التأثير، وأقل من أن تنظر إليها المجتمعات الغربية بعين الاهتمام.
* شن الحروب على بلدان إسلامية ومحاصرة أخرى وإثارة الفتن فيها، وهذا الأسلوب القديم المتجدد نابع من مفعول الأسلوب السابق، واعتماداً عليه أيضاً في بناء القاعدة الشعبية المؤيدة لهذه العملية أو تلك.
* تصدير الثقافة الغربية إلى المجتمعات الإسلامية، بالوسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والثقافية، وغير ذلك.وهذا الأسلوب يحقق هدفين:
الأول: إبعاد المسلمين عن دينهم وعقيدتهم (أسلوب التخلية).
الثاني: ربطهمبالثقافة الغربية التي تم تزيينها في عقولهم (أسلوب التحلية)، وكلما ابتعد المسلم عن دينه كلما اقترب من الثقافة الغربية.
وبوجود تيارات وأطراف محلية تتبنى أفكاراً خارجية غريبة عن المجتمع؛ تنشا عوامل الصراع والتصادم الداخلي بين من يؤمن بها ومن يرفضها، فينشغل الجميع بهذه الصراعات عن بناء المجتمع والإنسان.
وبمجموع تلك الوسائل وغيرها استطاع الغرب أن يخلق مظاهر الضعف وثقافة التفرقة في المجتمعات الإسلامية، وهي ظاهرة للعيان غير خافية. وأصبحت التبعية حقيقة واقعية عند المسلمين؛ حيث فقدوا الثقة بالله، وفقدوا الثقة بالنفس، وخسروا عوامل التماسك والقوة وأصبحوا تابعين للغرب سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وعلمياً، وفي كل الأمور..ولم يكتف الغرب بذلك، بل عمل على استغلال مظاهر الخلاف الموجودة بين المسلمين – التي غرس الغرب بعضها – لضرب بعضهم ببعض، إضافة إلى تغذية الصراع الديني بين المسلمين وغيرهم.
تيارات دينية
المسيحية الصهيونية: